رغم أن الذاكرة أحد مفاتيح الرواية، كما قالت الروائية الفلسطينية ابتسام عازم، فإن الرواية برأيها مهووسة بالحاضر كذلك، وترفض أن يشار بأصبع الاتهام الى الأدب الفلسطيني، لإنه لا يزال يكتب عن النكبة التي لم تنته، في الوقت الذي لا يشتكي أحد من أن موضوع «المحرقة» حدث رئيسي للكثير من الروايات والأفلام.
لابتسام عازم روايتان هما «سارق النوم.. غريب حيفاوي»، ورواية «سفر الاختفاء»، وهي كاتبة وصحافية ولدت في طيبة المثلث، شمال يافا، وحصلت على الماجستير من جامعة فرايبورغ في ألمانيا في الأدب الألماني والإنكليزي والدراسات الإسلامية، وتقيم حاليا في نيويورك.
ليس توثيقاً فحسب
◗ أكثر من مئة رواية قدمها الأدب الفلسطيني منذ النكبة. هل ترين أن الرواية الفلسطينية تجاوزت هموم التوثيق وحفظ الذاكرة، لتصبح أكثر مقاربة لتعقيد الوضع الفلسطيني السياسي والمجتمعي والثقافي، الذي لا يمكن اختصاره بأزمة شتات ونكبة واحتلال؟
ــــ لا أرى أن الرواية الفلسطينية انحصرت في مواضيعها وأشكالها بـ«التوثيق والذاكرة فقط». حتى تلك الروايات التي صدرت بعد النكبة بفترات قصيرة. أعتقد أن الأدب الفلسطيني، والرواية بالذات، سيظلم إذا حشر في هذا الإطار فقط. وإذا لم ننظر للسياق والسؤال الأوسع، وهو هل حملت هذه الروايات هموم مجتمعاتها، على اختلاف أماكن وجودها وخصوصيتها، وصورتها بطريقة إبداعية، خلاقة، وجميلة؟ ثم لماذا يشار كثيراً إلى الأدب الفلسطيني باصبع الإتهام بأنه ينشغل بمحيطه، أو أنه ما زال يكتب عن النكبة؟ علينا هنا أن نتذكر أيضاً أن النكبة لم تنته وما زالت مستمرة، وما زال الفلسطينيون يعيشون تبعات حدث عام 1948، وشظايا ذلك الانفجار ما زلت تتساقط على رؤوسهم، سواء كانوا في الشتات أو داخل فلسطين. تختلف، بالطبع، قسوة الأوضاع باختلاف أماكن تواجدهم وظروفهم. كما أن استعمار فلسطين ما زال مستمراً هو الآخر. لم تحرر فلسطين، ولا يستطيع اللاجئون العودة حتى الآن. في المقابل، لا نسمع أحداً يشتكي من صدور الكثير من الروايات والأفلام التي تأخذ موضوع «المحرقة» كحدث رئيسي تنطلق منه لتسرد رواياته. الرواية تنشغل بمحيط شخصياتها وعوالمهم، والكثير من الروايات الفلسطينية قدمت قفزة نوعية في مسيرة الأدب العربي وحتى العالمي. وأعتقد أن كيفية تناول موضوع معين لا تقل أهمية عن الموضوع نفسه إن لم تكن أهم. ليست الرواية مجرد حكاية، فهي جمال ولغة وإيقاع وحبكة. ولا يكفي أن يكون لدي موضوع وفكرة جيدة كي أكتب رواية مختلفة فالـ«كيف» هو حجر الأساس.
عن الآخر
◗ هل يمكن كتابة رواية «فلسطينية» من دون أن يكون «الإسرائيلي/الآخر» حاضرا فيها؟
ـــ بالنسبة لي ليس الإسرائيلي «الآخر» بالمعنى السائد على الأقل. ويجب أن ننظر إلى هذا الموضوع بحس نقدي. فيفترض مثلاً أن هناك عملة، ولهذه العملة وجه ووجه آخر، وأنا لا أتفق مع هذا بتاتاً. لا يمكن، بالطبع، أن ننكر حقائق على أرض الواقع والتأثر والتأثير بين الطرفين بكل جوانبه. ولكن، مع ذلك، مهما تعددت صفات الإسرائيلي وشخصياته، يبقى مستعمراً إلى أن نجد حلاً عادلاً للقضية الفلسطينية. وهذا لا يتمثل بالنسبة لي بـ«حل الدولتين»، ولكن هذه مسألة أخرى. لا أنكر وجود الإسرائيلي. لكن هويتي لا تحدد من قبله، وغير مربوطة به بشكل يختزلني، حتى لو كانت الحياة التي يعيشها الفلسطينيون خارج فلسطين (اللاجئون خاصة) وداخلها متعلقة بقرارات دولة الاستعمار ووجودها. وحتى لو كانت حياة الفلسطينيين في الداخل تتقاطع مع الإسرائيليين، وكانت في هذا التقاطع «صداقات»، تبقى تلك العلاقات ابنة بيئتها، ولها إشكالياتها العميقة. وهذا يحضر في روايتي «سفر الاختفاء». ومهما كان الإسرائيلي يسارياً فوجوده في فلسطين لا يمكن أن يزيل عنه صفة المستعمر أو مسؤوليته التاريخية. السؤال بالنسبة لي لا يتعلق بالتطرق في رواية ما إلى الإسرائيلي، بقدر ما يتعلق بالكيفية التي أتطرق بها لوجود هذا المستعمر أو غيابه.
سارق النوم
◗ كتبت «سارق النوم غريب حيفاوي» و«سفر الاختفاء»، والبعض رأى أن الثانية كأنها جزء ثان للرواية الأولى.. ما تعليقك؟
ـــ لا تخلو روايات أي كاتبـ/ة من روابط أو من استكمال لبعض الثيمات أحياناً. هذا يحدث دائماً. لكنني لا أتفق مع الرأي أعلاه بخصوص الروايتين ففيه إجحاف. «سارق النوم» عبارة عن «نوڤيلا» تتضمن حكايات مختلفة تطرح مواضيع اجتماعية وسياسية استخدمت في كل حكاية، حتى لو كانت شخصيتها الرئيسة واحدة، وهي غريب حيفاوي، تقنيات أدبية مختلفة، بما في ذلك بعض التجريبية والسخرية ولعب على الايقاع الموسيقي للغة، وبعض الإشارات إلى الأساطير. كما أن أحداثها تختلف عن «سفر الاختفاء»، التي تتمركز في مكان واحد، يافا ومحيطها، وحول حدث رئيسي واحد تتمركز حوله، ولكن يوجد تطور في السرد مختلف تماماً عن سارق النوم.
زمن الرواية
◗ تكتبين في زمن «الفورة» الروائية العربية.. هل هذا الوضع يمكن أن يكون مشجعا على دخول ساحة الرواية أم العكس، ولماذا؟
ـــ أكتب الرواية لأن هذا أمر ضروري وعمل إبداعي لا يمكنني أن استغني عنه، ولا يهم إن كتبت الكثير أو القليل من الروايات في هذه الفترة. السؤال هو: ما هو نوع الروايات التي تكتب؟ كما أن المبدع، وخاصة شخص مثلي درس وعاش بعد فلسطين في ألمانيا والولايات المتحدة، وتعلم لغاتها وأدبها، يتأثر بتلك الثقافات المختلفة. الكاتب لا يكتب من وفي فراغ، بل يتأثر ويؤثر ويتفاعل مع ثقافات العالم. وبالنسبة لي كانت دراسة الأدب الألماني واحدة من الأمور المهمة جدا والمؤثرة في حياتي وكتاباتي، من دون أن يأتي ذلك على حساب الاستزادة من الثقافات العربية والتعمق فيها. أما عن «الفورة» الروائية في العالم العربي فقد أتت لأسباب عديدة، من بينها الجوائز، وبصراحة عندي شك بأنه يمكن أن نسميها بالفورة، ولكن هذا أمر آخر. إحدى المشاكل الرئيسية تقع في قضية الجوائز، فالكثير منها ذات أجندات سياسية وحتى فكرية معينة، بوعي أو من دونه، ولا تخلو من إشكاليات عديدة. في نهاية المطاف إذا كتب أكثر وكان من بين ما يكتب ما هوجميل ومؤثر فهذا أمر رائع ومفرح.
[عن جريدة "القبس" الكويتية]